ظهورات "رواية"




الفصل الأول

الأولى

خطوة أخيرة بعد قراءة الفاتحة والصلاة على النبى



"قال سائق التاكسى:
- أين فى شارع الهرم؟
فجاءه صوت إبراهيم نحاسياً
لا يريد الوصول إلى أحد:
- المدافن.
قال السائق مندهشاً:
- لا توجد هناك مدافن يا أستاذ!
وقال إبراهيم دون رغبة فى الكلام:
- الأحباء دائماً هناك حيث نريدهم "



1..أفتح الباب قليلاً وأقول: لا شىء يبقى..لا شىء يهم

أولا.. ينبغي أن أوضح لك أنني شخص ليست له أية مصلحة في هذه الحياة.. شخص لا يهتم بها، ولا تهتم به.. "حياة كالحياة وعمر للنسيان"..راية رفعتها في وجه حبيبتي التي لا أذكر رقمها في قائمة محبوباتى الكثيرات.

قال لي صديقي:
- أليست لك شروط في المرأة التي تحبها؟
بالفعل ليست لدى شروط فيمن أحب، كل النساء محبوباتى، أي واحدة منهن، المهم أن تحتوى على جزء ولو ضئيل جدا يدل على أنوثة محتملة الحدوث في وقت ما، لذا فعلاقاتي النسائية كثيرة جدا، و متنوعة الأشكال والأحجام بطريقة مقرفة جدا..(ليس لى بالطبع)
هكذا ، وبنفس سهولة البداية يكون الختام دائما.
هذا هو ما حدث،ربما أكون قد فعلت بعضه والبعض لا، ربما لم أفعل منه شيئا، و ربما فعلته كما قيل بالضبط ،وربما أكثر.
كل الاحتمالات كما ترى قائمة،والأمر كله لا يستحق هذا العناء ..أو هكذا أراه..
جائز جدا أن نفعل كلنا أشياء كثيرة ثم ننساها، أو نتذكرها جيدا ونحاول تجاهلها، ليس لأنها تسئ إلينا، أو لا نحب ذكرها، وإنما فقط لكى نتمكن من ممارسة متعة النسيان، تلك المتعة التى نمارسها فى كل لحظة، و نتظاهر بالاستياء إذا ما نبهنا الآخرون أننا ننسى. لذا لم يكن غريبا أن أستمع إلى كل ماقيل, و أضحك من كل قلبى, مشفقا على من أتصور أنهم بشر مساكين، و لا أتصورنى أبدا مهتما بمثل هذه الأحاديث.
أضحك.. و أقول لى:
-       سبحان الله.. فعلا، يخلق ما لا تعلمون !

هكذا.. لم أحاول نفى ما لا أذكره عنى.
فما الفائدة.. إذا كان نفى الأمر أو إثباته لا يغير من الواقع شيئا، خاصة لمن هو مثلى من ذلك الصنف من الكائنات التى لا تهتم بما يدور حولها، حتى و إن كان يؤثر فى حياتها و سلوكها الشخصى بشكل شديد الوضوح، فأنا  - كما تعرف - كائن لا مصلحة له فى هذه الحياة، ليس مهما إن كنت أعمل أو لا أجد قوت يومى، ليس مهما إن كنت مقبولاً أم مرفوضًا من الجميع، حتى ممن أحبهم، إن كنت أستطيع أن أنام بعمق أم لا أجد مكانًا أريح به جسدى الضئيل.. ليس مهمًا. فكل شىء - فى تصورى - هو بالضبط لا شئ على الإطلاق.
كل شىء لا يعنى لى شيئًا، و بنفس الدرجة أدرك أننى لا أعنى شيئًا بالنسبة لأى شىء.

ماذا حدث إذن؟
بنت تضاجع رجلاً فى عمر جدها، يصنع منها شيئًا تحبه، و يختار لها عريسا لا تهم محبته، يصنعه لخاطرها. بالضبط كما تريد هى، و يريد هو لها، ثم تأتى و تعترف لى، فتقول عن أحلامها التى هى فى أفضل صورها كوابيس مزعجة.
تصفها لى..... و تبكى.
تقول لى عن خطيبها الذى لا تهم محبته، و الذى يخصها بكرم لا يناسب طبيعته البخيلة المقترة، و يأسرها بهذه المشاعر الخاصة. تقول عن خياناتها الدائمة لثقته فيها، حتى أنه لا ينظر فى التاكسى الذى يمر أمامه مباشرة بعدما يودعها عند حارتهم، و الذى تكون جالسة بجوار سائقه فى طريقها إلى خيانة جديدة.
تقول عن رجلها العجوز و رغباته المجنونة، و مخاوفه المنطقية الآسرة، و سحره الذى لا حد له.
تقول, و تبكى.
تقول و لا أستطيع إلا أن أحبها و أقول لى:
-   لا بأس يا صديقى.. كن طيبًا تكن بخير.

ماذا حدث إذن؟
أرملة فى العقد الرابع من عمرها، تضاجع نفس الرجل, و تريده زوجًا لها، و أبًا لابنتها الصغيرة. فماذا يمنعهما من ممارسة الحب فى نفس الحجرة, و ممارسة العبث فى نفس المكان, و فى نفس الوقت, و بنفس الأشخاص؟
هكذا.. ليس مهمًا أن تكون قد فعلت شيئًا أم لم تفعله. فلن يختلف الأمر كثيراً، حيث الوجود هو العدم, و الحياة هى الموت. تمامًا مثل الأبيض و الأسود إذ لا فرق مطلقًا.
لماذا أحكى إذن؟

أيها الأصدقاء:
إنها رغبة الحكى فقط لا غير.
تلك الرغبة التى لا نستطيع أن نمارس الحياة بدونها، نتعلمها أطفالا من أمهاتنا و جداتنا, و نعيش حياتنا من خلالها و بها. بها نستولى على عقول نسائنا و أصدقائنا و أبنائنا و أعدائنا, نحكى عن العفاريت, و نحكى عن الناس, و عن الملائكة, نحكى عن الملوك و عن الحرافيش, نحكى عن الخمر, و عن النساء, نحكى عن الفضيلة, وعن الهزيمة, و النصر, و عن أسعار الفاكهة.
عن كل شىء نحكى و ننتظر الحكايات بشغف و متعة لا تعادلهما إلا ممارسة الحياة نفسها.

أيها الأصدقاء:
أظنكم سوف تنتظرون الحكاية,
و إن كان ذلك لا يهمنى بأية حالٍ من الأحوال.
و أظننى سوف أحكى
و ليكن ما يكون

توكلنا على الله.


2..أفتح الباب قليلاً وأقول: كان ينبغى أن تغنى
قال ناصر بيومى: لا يجوز على الميت غير الرحمة.
*     *     *
قال سعيد:  ذهب فى ستين داهية. ذلك الصنف الذى يريد أن يأخذ زمانه و زمان غيره لابد أن يموت. و لا تجوز عليه الرحمة. أنا لا أعرف كيف تحمل أن يعيش حتى هذه السن المتأخرة.
هذا الجيل المقرف الذى لا يتعب من القبض على الدنيا بكلتى يديه بقوة عجيبة. لقد أخذوا كل شئ, الحرية و المال و الشهرة. حصلوا كلهم على صفحات واسعة و هم أصغر منا جميعًا. و أقلهم كان رئيس تحرير قبل أن يتم الأربعين. و معظمهم تخرج من الجامعة ليجلس فوق كرسى لم يكن أهله يحلمون به، فكان الكرسى أوسع من مؤخراتهم المقشفة, و ركزوا جهودهم فيها حتى اتسعت و التصقت به, ثم لحظنا الطين انحشرت, فلم يعد ممكنًا أبدًا أن يغادر أحدهم ذلك الكرسى.
*     *     *
قال بهجت: المسألة الآن أن نعيد ترتيب القسم قبل أن يلهفه منا أحدهم.
فقال سعيد: أقسم أن هذا الديوث سوف يحاول أن يفعلها، لكن هذا لن يكون إلا على جثتى.
كان صبحى يبكى بحرقة.. و قال لفاطمة:
- سوف أسافر لمدة أسبوع.. أريد أن أراكِ عندما أعود. أريد أن يكون لقاؤنا بعيدًا عن المنزل و عن الجريدة. ليكن مساء الأربعاء فى نادى الصحفيين بالجيزة.
*    *    *
قالت فاطمة:كنت وحدى، لا أحمل غير بعض الذكريات الثقيلة، لا أعرف هل كنت أحبه حقا، أم انه كان مجرد رجل أستعيض به عن أبى الذى ذهب وحده وتركنا جميعا؟
أحبه حقا؟ أم أنه كان مجرد رجل يستطيع أن يشترى لى كل ما أحتاج إليه، حتى وإن كان صبحى، ذلك الكائن الذى يدعو مجرد ذكر اسمه إلى الابتسام والضحك من غباء الدنيا، تلك التى لا تتوقف عن اقتراح الحلول المجنونة.
دائما ما تكون حلولها غريبة ومدهشة.. بدرجة صبحى ، لكنها على أية حال، حلول ممكنة ومسلية، قد لا تكون لذيذة، لكنها كافية لاستمرار الحياة.
صبحى!!؟
ماذا يعنى هذا الاسم؟
( ضحكت فاطمة وهى تقول:
- ياله من صباح بليد! )
*    *    *
قالت فاطمة:ياله من رجل جميل، قلتها عنه كثيرا فى حياته ، فهل كنت صادقة حقا فيما أقول؟
وهل كان يصدقنى عندما أقولها على مسمع منه؟
ماذا استفدت ممن قلت لهم عنه هذه العبارة التى أشك الآن فيها؟ هذه العبارة التى أصبحت أكرهها لمجرد اقترانها به!
كيف إذن تبدلت مشاعرى بهذه الطريقة؟
لقد حرصت على استمرار محبتى له، لكننى لم أستطع، ولا أحس بداخلى إلا بكراهية شديدة له، ذلك الكائن الذى ظل ممسكا بكل خيوط حياتى حتى لحظته الأخيرة، مرة بالبكاء وبإثارة غيرتى مرات عديدة، وبحكايات شيخوخته دائما..
لقد ظل يسيطر على انفعالاتى ومشاعرى ورغباتى حتى بعد موته.
كان دائما ما يعايرنا بك، ويطلب منا أن نقلدك ونفعل مثلك، دائما ما كان يقول لنا:
- إبراهيم هو الوحيد فيكم الذى يفتح النفس.
لم يكن يعرف أنه هكذا يقدمنى إليك، وأننى مللت حالاته المرضية المزعجة، وتوسلاته التى لا معنى لها..
كنت على وشك الجنون، أصبحت أرى أحلام يقظة كثيرة جدا، ومفزعة جدا، صار كل شئ يخيفنى، أما هو فكان دائما ما يقول لى أنه صار عجوزا، ولا حق له فى الحياة، حتى أنا، لا حق له فيما يحدث بيننا.. يطلب منى أن أحكم الرباط بينى وبين صبحى، ذلك الشئ البارد الذى لا لزوم له، و يقول اننى ربما لا أستطيع أن أحبه، لكننى يجب أن احاول ألا أخونه، فهو لا يستحق أن يظل طوال عمره يتلقى الصفعات على قفاه، هكذا بدون شفقة؛ بينما كان ذلك الغبى يتعمد كل ما يظهر منه حتى يحصل على أكبر قدر من الفوائد.
طبعا كان كل هذا بعد ظهور تلك الحرباء التى لا أعرف ماذا كان يعجبه فيها، فكان يحاول أن يشغلنى عنها بصبحى، مدعيا دور الذى راحت عليه،وعرف ذلك، فقرر أن يهب حياته لمساعدة الآخرين، أما الذى كان يشل فهو أنه فى عز ذلك الدور التراجيدى لم يتوقف عن طلب زيارتى له فى شقة المعادى!
هل تصدق أنه قبل وفاته بليلة واحدة طلب منى أن نفعل بالماء والصابون؟
كان مريضا، وكان يضحك وهو يقول لى:
- نغسله..من حقه أن يستحم؛ على الأقل قبل أن يموت!
وهل تصدق أنه أمسك بنهدى، واعتصرهما بيده وفمه..وقام، ونام، وفعل أشياء كثيرة، وكاملة؟!
بعدها بيوم واحد يقولون لى انه مات!
.....................................................
أنا لا أصدق أبدا أن من يملك هذه القدرة على عذابنا؛ حتى بعد رحيله؛ يمكن أن يموت!

3... أفتح الباب قليلاً وأغنى: دعونى أجلس فى ظلالكم

هناك.. فى ذلك المكان البعيد.
على حافة الصحراء، فى نهاية شارع الهرم، طالت جلستنا لتأخذ معها الليل كله. ما بين النهار والنهار، حدثته عن حياتى كلها.
ربما لم يستمع إلى شىء مما قلته.
ربما كان معى..
وربما لم أكن أنا، ولم يكن هو.
هناك حيث حدثته عن حياتى كلها.. حدثته عما قالته لى، ربما بنص كلماتها، وربما أعطيتها من مفرداتى الخاصة.
حدثته عن حكايات أصدقائى، وحكايات من ماتوا ومن لا اعرفهم.
حدثته عن مخاوفى وأحلامى.
عما حدث وما قيل أنه حدث، وما أظن أنه سوف يحدث.
حدثته عن الليل والمدينة والزحام ونوبات البكاء التى تصيبنى فى الحدائق العامة ونومى الخفيف.
حدثته عن ثريا وما أصابنى منها، وقلت أنها لا تناسبه، ولا تصلح لأى شىء، وأنه ربما كان يمكنه أن يساعدها.
حدثته عما حدثته عنه، لم أكن أعرف أن لدى كل هذا الكلام، وأننى أستطيع الحديث كل هذه الساعات دون توقف، ودون رغبة فى إجابة.
هناك
كان لابد لى أن أتكلم وأقول عن كل شىء.
ربما كنت خائفاً من غضبه، إلا أن محبتى التى تغفر كل شىء ما كانت لتمسح لى ان أتوقف أمام ذلك الخاطر.
          لقد رحل.. مات.
كان لدى يقين ما كافياً لكى أقول كل ما عندى.. دون توقف، أو رغبة فى سماع إجابة، ودون وعى بما تريده الحياة منا.
دائماً كان يقول لى:
- انت ابنى يا إبراهيم، والعلاقة التى بيننا ليست أبدا مجرد علاقة اثنين فى عمل.
وقال لى:
- لقد تعبت فى بداية حياتى.. مثلك تماماً، وربما أكثر.
كنت مدرساً فى إحدى مدارس القرى، حيث أورثنى العمل بها إيقاعاً ميتاً..  الحياة هناك بطيئة جداً لدرجة أننى كنت أحس أن اليوم لا يريد أن يمر بسلام.
حياة لا حركة فيها، لا إلى الخلف ولا إلى الأمام، حياة رتيبة ، مملة، لا تناسب إيقاع الشباب. لم يكن يشغلنى هناك غير قراءة الكتب والروايات ومتابعة الصحف، لكن هذا لم يغننى عن الحياة ذاتها، تلك التى كنت أظن أنها هنا، فى القاهرة وحدها.. ولا حياة فى مكان غيرها.
جئت إلى القاهرة دون استقالة.. ودون استئذان.. ودون عمل.
فى القاهرة كان ما لم أتوقعه أبداً. كنت غريباً بغير أصدقاء ولا مأوى. وكان لا مفر من ارتياد أماكن التجمعات الخاصة بالأدباء والمثقفين بشكل محترم ومبالغ فيه، وهيئة نظيفة حتى أفلت من ألسنتهم التى لا ترحم ضعيفا ولا تستر عرياناً، وأنت تعرفهم جيداً، الواحد منهم مستعد أن ينفق عليك كل ما فى جيبه على مائدة الشرب، فإذا سألته جنيها واحداً لغير ذلك، يدعى الفقر والفلس، ويتهرب منك، فهو يدفع لك فقط لكى تجلس معه، تسليه. إنما إن كنت تريد أن تأكل أو تسافر أو أى شىء آخر، فهو غير مستعد على الإطلاق.
اشتغلت حلاقاً فى صالون حقير، وسائساً فى جراج، وفى مطاعم الفول الكثيرة. أيامها كانت الدنيا واسعة. فكنت أنام تحت شجرة جميز ضخمة فى حديقة الأزبكية – رحمها الله – وكنت أذهب فى الصباح إلى مبولة عمومية قريبة، فأستحم، وأغسل بنطلوناً وقميصاً وأنشرهما فوق جريدة إلى جوارى. أكتب قصة أو مقالاً، وعندما أنتهى من الكتابة يكونا قد نشفا، أطبقهما بعناية، وأضعهما فى الشنطة الصغيرة حتى صباح جديد. هكذا.. بقليل من الصبر وحب الحياة كنت دائماً مميز وسطهم جميعاً.
عندما مات أبى ترك لى ميراثاً ثقيلاً . لم أكن قد التحقت بعمل ثابت. وكان لا خيار لى غير أن أحضر أمى وإخوتى البنات ليعشن هنا معى.. فكان لابد من الحصول على سكن، وكان لابد من توفير غذاء وشراب وملابس.. كان لابد من الحصول على عمل.
*        *        *
قال لى:
- إسمع يا إبراهيم.. لا يوجد شىء سهل فى هذه الحياة. لن تحصل على شىء بدون مقابل. عادة نظن أننا ندفع الأغلى، لكنها حسبة بسيطة، فاحتياجنا هو ما يرفع قيمة ما نحصل عليه. كل شىء لا يساوى شيئاً.. فإذا ما احتجنا إليه أصبح يساوى الحياة كلها.
*        *        *
منذ البداية لم تكن فاطمة تهمنى فى شىء. أنا أصلا لم ألحظ وجودها. كنت أنت محور اهتمامى، أنت الرجل الذى يقدم لى رعاية واهتمام أبى الذى سافرت عنه.. وأفتقده كثيراً. أنت من يقدم لى فرصة عمل لم أحلم بها.
تعرف أننى لست حزبياً، والجريدة حسب ما وصلنى، لم تكن تستقبل غير أعضاء الحزب. أرجوك لا تندهش، فأنت تعرف أننى لا أحب السياسة، ولا السياسيين. أعرف أن الحياة سياسة كلها، الحب سياسة، والأكل سياسة، والمشى سياسة، وممارسة الجنس غالباً ما تستخدم فى تصريف أمور السياسة.. أعرف كل هذا، لكننى لا أحبها، ولا أحب الحديث عنها. وقد كان انضمامى إلى الحزب على سبيل الدعابة والمجاملة، لا أكثر ولا أقل. فأنت تعرف – طبعاً – أنه لكى تؤسس لجنة لأى حزب فى أى مكان، لابد من خمسة أشخاص كحد ادنى، وعندما تم الإعلان عن تأسيس حزبنا، لم يكن فى قريتنا غير ثلاثة من أصدقائى يرغبون فى عضويته، وكان يجمعنى بهم براح الوقت فى القرى، ومائدة "الاستميشن" اليومية ، فطلبوا منى أن أكمل لهم العدد.
ولأننى لا أهتم بشىء، ولا فارق عندى، وافقت، وملأت استمارة العضوية، واخترت لهم صديقا آخر يكتب الشعر ليقوم بدور الرجل الخامس.
هكذا صرت عضوا فى حزب لا أعلم عنه شيئاً، مثلما كنت عضواً فى أحزاب لا أعرف حتى أسماءها.
وهكذا كان على أن أحضر عددا من الاجتماعات، ومنها كان اجتماع مع مجموعة من رجال القاهرة، جاءوا للبحث فى قريتنا عن قاعدة لهم.
فى ذلك الاجتماع تعرفت على نبيل أرنست – تعرفه طبعاً – رجل يعرف كيف يوجه الحديث جيداً، وكيف يدير حوارا دون أن يقع فى خصومة، ودون أن يترك موقعه، كان صديقنا الشاعر يقرأ بعضاً من قصائده، عندما انتهى نبيل من شايه، ساعتها لم أسمع مما حولى شيئاً، فقد كانت أذناى فى الكوب الذى وضعه فوق الصينية فى ما يزيد على دقيقة كاملة بدون مبالغة، وبدون أن يصدر أى صوت لاحتكاك الزجاج بالنحاس.
لم أتذكر عن بقية مجموعة القاهرة التى جاء معها نبيل أرنست إلى قريتنا غيره.. ذلك المسيحى الذى يحمل مسبحة فى يده طول الوقت، ويتكلم فى الدين والاقتصاد والمجتمع والشعر والرواية وممارسة الحياة، واسمه "نبيل أرنست".
*        *        *
كلنا نصدق أننا أشخاص لا يمكن نسيانهم، لكننى أعرف أيضاً أن من يعمل عملا عاماً، لابد أن يقابل كل يوم أعداداً من المخلوقات عديدة الأشكال والأنماط. وفى أحد مقاهى وسط القاهرة قابلته بعدها بعام كامل. لأجده قد تذكرنى على الفور، دون أن تخونه ذاكرته السياسية فى هنة صغيرة، مما أثار دهشتى، وزاد فى محبتى له.. كان استقباله لى حاراً آسراً وكأننا أصدقاء من زمن بعيد. أنا من يعرف أنه من النوع الذى يسهل نسيانه، ولا يجد المرء صعوبة فى تجاهله.. حدثنى عن أشياء كثيرة.. وسألنى عن كل شىء.. ثم جاء بى إليك.. قال لى:
- نذهب الآن إلى مكتب الأستاذ وجيه بدوى.
وقال لى:
- الأستاذ وجيه كاتب كبير.. عليك أن تحبه وتتعلم منه.أنتما متقاربان فى أشياء كثيرة، وسوف يرحب بك كثيراً.
هو يحب الشباب، ويتحمس لهم .. أعرف أنك سوف تكون عند حسن ظنى، ولن تقصر رقبتى.

4.. الآن، أفتح الأبواب جميعاوأقول: فى البدء كانت الحكاية

فى الجريدة كنت أنت وحدك. لست أدرى لماذا لم تكن علاقتى طيبة ببقية رؤساء الأقسام، وبرغم أن كل الموجودين لا يعرفون بعضهم من قبل تقريباً – أو هكذا كنت أظن – أصابنى إحساس بالغربة بين كل هؤلاء. وجوههم كانت تعكس شيئاً ما لم أحبه، ولا أعرف الآن كيف أصفه، ليست كراهية ولا رفضا . فقط هى رغبة فى عدم التعارف. غير أن عدم التعارف هذا لم يدم طويلاً، فأنت تعرف أننى أسكن فى شقة مفروشة بشارع الهرم مع اثنين من بلدياتى، أحدهما رمضان طاهر الذى يعمل معنا، فى القسم السياسى بالجريدة، وهو واحد من الثلاثة الذين طلبوا منى أن أستكمل معهم لجنة الحزب.. هو من النوع شديد الطموح دائماً إلى تجاوز المسموح له به، ويؤمن أن من لا يعجبك اليوم وجهه، غدا يجعلك الزمن فى حاجة إلى قفاه.
وهكذا لم يمض أسبوع واحد حتى كان كل العاملين بالمبنى أصدقاء مقربين إليه، وزائرين يوميين لشقتنا المشتركة. ولأنها مشتركة كان من الضرورى أن نجلس معهم أنا وخالد فؤاد، زميلنا الثالث الذى يعمل مدرسا بالحصة فى إحدى المدارس الثانوية بنات.
كانوا جميعاً يزورون رمضان، ومعظم هذه الزيارات كانت لاستكمال أحاديث خاصة بتدبير ردود فعل مناسبة ضد قرارات مجلس إدارة الجريدة. تركزت فى الفترة الأخيرة لبحث مسألة التعيينات التى تأخرت كثيرا، وتحديد من يستحق ومن يجب الإطاحة به، وترتيب الأولويات وتحديد المعايير التى لابد أن تتم على أساسها.  ثم بعد قليل أضيفت مشاكل الحزب إلى جدول الأعمال، فزاد الإقبال على الشقة المشتركة، مما دفعنى إلى التهديد بتركها إن لم تتوقف هذه الاجتماعات، ومن حسن الحظ أن خالد انضم لى، فلم يكن أمام رمضان إلا أن ينقلها إلى شقة سعيد التى حجزها لزواجه الذى لم يتم.

فى هذه الاجتماعات تحدث أحدهم عن فاطمة التى شاهدوها نازلة من شقتك بالمعادى، وكانت فرصة ذهبية للإطاحة بمنافس قوى فى مسألة التعيينات.
 يومها كنت أتساءل حقاً: هل يمكن أن تكون هناك علاقة فعلا؟ وكنت أصر على رفضى لهذه الحكاية. قلت لرمضان أننى لا أصدق أن يفعل هذا رجل مثل الأستاذ وجيه. وبينما كان رمضان يشرح لى، كنت أتابع إنصات خالد لنا، وتأكيده على كلام الآخر.
وعندما سألتهما عن مصادرهما مبدياً دهشتى من ذلك اليقين المفزع الذى يتحدثان به، سألنى خالد:
- ما اسمها بالكامل؟
- فاطمة رضوان.
وبشىء من الخبث سألنى رمضان:
- ألا يذكرك ذلك بشىء؟
- لا شىء.
- لا شىء مطلقاً؟
- لا شىء مطلقاً.
فقال خالد:
- ألا تذكر قسم العمرانية؟
ماذا حدث فى قسم العمرانية؟ أنا لم أذهب إليه غير مرة واحدة منذ ثلاث سنوات تقريباً. وكانت هذه المرة بسبب خالد، فقد كان على علاقة بإحدى الطالبات عنده..
فاطمة رضوان.
هنا فقط أدركت ما يقصدان إليه.
يومها فقط رأيت ما يحدث أمام عينى دون أن أراه أو أفهمه.
يومها فقط كان للحكاية طرف واحد فقط لا غير..
واسمه فاطمة.
*        *        *
قال خالد فؤاد أنه كان ذاهبا مع حسن زميله الذى يهوى الموسيقى لمقابلة رضوان عازف الإيقاع، الشهير فى فرق الأفراح بالريس "عصفور الطبال"، فى إحدى الحارات الضيقة قال حسن "هنا"، وهبطنا إلى داخل الحارة التى لا تتسع لاثنين معاً، درجة أخرى إلى ساحة المنزل ذى الطوابق الثلاثة العالية، الذى يسد الحارة، حيث تختلط الرطوبة بالأجساد، وروائح الحكايات المعتقة، وحلل الطبيخ البائت، وأحاديث النسوة عاريات الأفخاذ والصدور وروائح النوم البليد.
درجة أخرى بعد النقر على الباب.. الباب ذى الضلفتين من بقايا كراكيب واحتمالات إصلاح مجهدة، الباب الذى لم يكن يتحمل طرقة أخرى عليه، وربما انفتح تحت وطأة أصابع عازف الكمان الشاب، أو ربما تم جذب إحدى ضلفتيه كاملة إلى الوراء لكى تفسح لهما درجة أخيرة إلى صالة ضيقة، هى فى العرف حجرة الصالون، تقسمها ستارة من قماش سميك معلقة من طرفيها إلى بروز فى الحائط.
عرف فيما بعد أن نصف الحجرة الأول من ناحية الباب يستخدم لاستقبال ضيوف الأستاذ عصفور – أفضل عازفى "التلاتات" أو "التت" فى مصر كلها – وعقد اتفاقيات الأفراح، وأخذ "العربون" وتجميع الفرقة قبل التوجه إلى مكان الفرح، فكان طلاء هذا النصف من الجير الذى يتم تجديده على فترات غير متباعدة ، مع الاحتفاظ بأن يظل المتر الأول من ناحية الأرض مطلى بالزيت. ولا يتعدى أثاثه كنبات ثلاث متعامدات ، يحطن جدار الصالة المزينة بصور عديدة للفنان وهو يضع كفه تحت ذقنه، أو وهو ممسك بمكبر الصوت الذى يشبه منخاره الطويل المدبب، والذى يشبه لونه لون الصديرى تحت الجاكت اللميع، بينما الساعة فى معصمه واضحة جداً فى كل الصور، يبدو أنه كان يوصى المصور بضبط عدسته عليها.
فوق الكنبات الثلاث يتناثر عدد من الطقاطيق وعلب السجائر المفتوحة.. "كيلوباترا" و"ٍسوبر" لضيوف الأستاذ، أما هو فلا يدخن إلا "المارلبورو" الأحمر أو أى نوع مستورد، لا يغير المستورد ولا يعزم به على أحد.
فى الوسط ترابيزتان صغيرتان لزوم الشاى الذى لا ينقطع، ولا يعطى فرصة لإطفاء نار البوتاجاز الضخم الذى يحتل ركن الحجرة خلف الستارة، والذى وقفت فاطمة إلى جواره، والتى عرفت أستاذها بمجرد دخوله من الباب فوقفت إما تصب الشاى أو تنتظر غليانه، أو تقدم الصينية لأبيها الذى لم يتوقف حنكه عن التدخين أو الشاى، إلا لكى يعطى للكلام فرصة أن يقوله.

استقبلهما عصفور بود فائق، فأخذ يحتضن حسن بقوة من يقابل صديقا حميما غاب عنه فترة طويلة، مرددا عددا من الجمل التى يبدو أنه يكررها كثيراً:
- أهلا يا فنان.. إزيك يا كلب، فينك ياله، والله زمان يا ابو على.
ثم فتح فمه فيما يشبه الابتسام لخالد.
قال حسن:
- خالد فؤاد.. صديقى، مدرس.
- أهلا يا باشمهندس.. اتفضلوا، إدخل يا أستاذ البيت بيتك.. إزيك يا أبو على، الشاى يا فاطمة.
لفتت الساعة نظر خالد فى كل الصور، فحاول أن يخفى ابتسامة خبيثة وقال يلفت نظر حسن إلى وضعها.
- هذه الساعة جميلة جداً.. ومتينة أيضاً.
 فرد عصفور:
- أمممممممم... فعلا هذه اشترتها من زمان، عندما كنت فى بيروت، أيام الحرب.. والله زمان، كانت أيام جميلة. اشترتها من بلادها.. من أول أجر لى هناك.
- هى صناعة لبنانية؟!
- لأ.. من أوروبا يا أستاذ.
- أنت سافرت أوروبا؟
فقال عصفور غاضباً:
- فيه إيه يا أستاذ.. أنا اشترتها من بيروت.
أراد حسن أن ينهى الكلام فقال:
- هذه أفضل ماركة فى الساعات، كان عندى واحدة شكلها. "تيبيكال" فزاد غضب عصفور الذى أحس بإهانة قوية، وصاح قائلا:
- لأ.. دى سيتيزن.. مش تيبيكال.

هكذا بدأ حديث "التلاتات" و"الأفراح والعازفين" الأى كلام "والدنيا اللى "مالهاش كبير"، وقلة الأصل التى تصيب تلاميذ الأستاذ دائماً، والبنت المخطوبة وجهازها والفرح الذى اقترب موعده وفاطمة التى فى الشهادة السنة دى وتحتاج أحدا يذاكر لها فى الرياضة والعلوم. فاطمة التى وقفت إلى جوار  الجهاز الضخم تنتظر أمر إعداد الشاى وتقديمه. فاطمة التى وقفت تنتظر عينى خالد مدرسها الذى تعرفه جيداً. والذى تحولت عيناه إلى آلة لا تتوقف عن الحركة بين حديث لا علاقة له به، وبين ذلك الجسد الذى أخذ يستجيب له ويناديه فى ركنه الدافئ.
 كان يتفحص كل جزء فيها، وكانت بحس الأنثى التى تعرف وقع جسدها عليه تنتظر هذه العين التى تعرف أين تتوقف، وأين تمر مرورا عابرا، تبتسم عندما يثبتهما فوق صدرها الذى رفعته بعناية من يريد.. ثم تضغطهما برفق، وكأنها تمسح فيهما الماء  عن كفيها وهى تعدل من وضعهما داخل السوتيان الرقيق الذى تبرز منه حلمتاهما فى تحد صريح، ثم تستدير لكى ترفع شيئاً ما من على الأرض. ربما لم يكن هناك ما ترفعه ، غير أن ذلك لم يكن يهمها بقدر اهتمامها باستعراض ما تملكه من أرداف ممتلئة لا تخلو من نعومة يضيفها ضيق البنطلون القطنى الرخيص، ولين تبرزه خبطاتها الرفيقة التى تدعى تنظيف ما علق بهما من تراب الغرفة والحارة والشارع، وربما المدينة كلها.
تبادلا التحيات الصامتة والهمسات التى لا يسمعها أحد، واللمسات الساخنة بفعل أكواب الشاى وتبادل الكبريت.
كان يضع يديه فوق فخذيه وبينهما، فتغمض عينيها بنشوة ، ضامة ما بين فخذيها ، ثم تنحنى لكى ترفع ما لا وجود له من على الأرض واضعة يدها فوق ردفيها، يفك أزرار قميصه العلوية، لكى تحتضن نهديها، ثم تجرى إلى الحجرة الأخرى.. وتغيب.
- الشاى يا فاطمة.
ينادى عصفور، والكلام لا ينقطع منه ولا الدخان. ربما طلب من خالد أن يعطى درساً لفاطمة، ووافق على الفور. ربما طلب منه تعليقاً على حواره مع حسن، أو توضيحاً، أو إشارة إلى استماعه لهما. غير أن نهم الرجل للكلام لم يكن يسمح له أن ينتظر شيئاً، ولا حتى إجابة السؤال.

- آسفين، لابد أن نمشى الآن.
قالها خالد بعد ما قرأ الورقة التى دستها فى يده فاطمة مع كوب الشاى الأخير، و طلبت منه فيها أن ينصرفا حتى تكلمه لأنها خارجة من المنزل بعد قليل.
ودعهما عصفور بنفس حرارة استقباله لهما مطالباً خالد بتكرار الزيارة دون انتظار لحسن، كما أوصاه أن يذاكر للبنت "كويس" و..
- يمكن نجاحها يكون على ايدك..
- مالكش دعوة بحسن.. البيت بيتك فى أى وقت.. خلاص؟!.. إتفقنا؟ أنا منتظرك.

فيما بعد صار خالد لا ينقطع عن منزل الأستاذ عصفور الذى لم يكن موجودا طوال الوقت، حتى وإن كان موجودا، فقد كان يحييه بأن يدخن معه سيجارة واحدة، ليستأذنه بعدها فى شرب الشاى مع فاطمة فى الحجرة الأخرى.

يغلقا الباب، ويفتحا كتاب العلوم، يجلسها إلى جواره و يقول لها:
- هذا هو جهاز "كب" وهو عبارة عن كرتين من البللور.. إحداهما فوق الأخرى.. هكذا.. ثم يكور يديه فوق نهديها، وهو يميل بجسدها حتى يصبح نهداها فى وضع رأسى، فيبدأ فى تقبيلهما وعضهما، وتستلقى على ظهرها فاتحة ما بين ساقيها، وهو ماض فى الشرح.
لا يتوقف إلا لكى يفتح ما أغلق

قال خالد فؤاد:
- هكذا انتقلنا إلى ممارسة خاصة جداً كانت تقوم بها يدى أولاً، حتى تمكنت أخيراً من جذب يديها لكى تشاركانى.. .. فى متابعة الدرس.


5.. شرخ فى زجاج

كانت فاطمة هى صيد خالد الثمين، مثلما أصبحت بالنسبة لنا نحن أيضاً، شركاؤه فى الشقة الحقيرة، بعد ما قرر خالد أن ينقل الدرس إلى الشقة، فقد أدرك أنها ليست عذراء، وأن ما يحدث بينهما ليس كافياً، فتحولت زياراتها إلى فرصة لمشاهدة ممارسة كاملة على الطبيعة، لرمضان طاهر خاصة. وهو الذى انفعل فى المرة الأولى، عندما فوجئ عبر شرخ فى زجاج الباب برؤية جسدين عاريين تماما. ربما أخذه بعض الخجل من جسد خالد، غير أن الدهشة كانت أكبر من مساحة وجهه، تحديداً فمه ولسانه، منذ وقعت عيناه على برتقالتى فاطمة الصغيرتين كاملتى الإستدارة، وغابة الشعر المزنوقة بين فخذيها، وألجمته حركات خالد فوقها، فثار رافضاً ما يحدث داخل الغرفة المغلقة فى وجهه.
كنت ساعتها نائما، فاستيقظت على حركة رمضان الغريبة داخل الشقة. ساعة كاملة وهو لا يستقر فى مكان، ولو دقيقة واحدة، وفى كل انتقالة يحاول إيقاطى.
كان منظره غريباً جداً عندما انتبهت إليه وهو واقف فوق كرسى الحمام الذى وضعه أمام الحجرة المغلقة ، بينما التصق وجهه تماماً بزجاج الباب، لم يكن قصر قامته يسمح له بمشاهدة ما يحدث وهو واقف على الأرض. فلجأ إلى حيلة الكرسى الذى صار يحمله كل دقيقتين تقريباً.
- لابد أن نترك هذه الشقة.. هل توافق على ما يفعله خالد؟
بالكاد تمكنت من التقاط هذه الكلمات التى قالها بدون صوت تقريباً وهو يهبط من فوق الكرسى متجهاً ناحيتى، لكى يجلس بجوارى على حافة السرير.
- ماذا يفعل خالد؟
قلت بهدوء من لا يعنيه شىء مما يثير محدثه.
- لقد أحضر معه إحدى بنات المدرسة ونحن نائمين، ودخل بها إلى الحجرة التى ننام بها معاً، بعد ما أيقظنى بحجة أنه سوف يعطيها درساً، وهو الآن فوقها.
- ولماذا لم يعطها الدرس فى الصالة؟.. الصالة واسعة.. أصلاً لماذا خرجت من حجرتك؟
- قال أنه لم يرد أن يزعجك وأنت نائم.. وأن هذه الحجرة على الشارع.
- يعنى أنت وافقت.
- لا.. لم أوافق.
- ولماذا خرجت؟
- هذا هو ما حدث.. المهم، هل يرضيك؟
- ننتظر إذن حتى تمشى البنت.. ثم نرى.
لم ينتظر رمضان لحظة واحدة، كان كرسى الحمام قد استقر أمام الباب، وكان هو فوقه. إلا أنه بعد قليل جداً حمل الكرسى ليعود به إلى الحمام. بعدها لم أسمع غير صوت ارتطام مياه الدش بجسم بشرى قصير مكتنز، فابتسمت ونمت من جديد. ربما ساعة أو أقل أو أكثر. فقط كان تشطيب ساعات نومى هو ما احتاج إليه، وسمح لى به جو الشقة المفروشة التى فى شارع الهرم، لكى أصحو على صوت خالد الذى يشبه صفارة الإنذار وقد كان خليطاً من الانفعال الشديد – اعتراضاً على ما يقوله رمضان – والاستهزاء الشديد بما يظن انه يفعله من فتوحات.
لم يكن رمضان مصراً على مسألة ترك الشقة هذه. فقط – وهذا ما أدركته فيما بعد – كانت مناورة للحصول على موافقة خالد بمواصلة التفرج عليهما، وربما استطاع أن ينتزع منه وعداً بالمشاركة. فكان بين الجملة والأخرى يشير إلى أن واحدة أياً كانت لا يمكنها أن توقع بينهما، فهذه "عشرة عمر طويل" كما صار يصفها بأى وصف مبتذل يصادف لسانه، معتقداً أنه سوف يصل إلى هدفه بمساعدة هذه الأوصاف، غير أن خالد فؤاد لم ينخدع بهذه المناورات، وربما فهمها منذ الجملة الأولى.
المهم أنهما كانا يعرفان أنهما متفقان منذ البداية. فليست عند خالد أية مشكلة فى أن يستمر رمضان فى حمل الكرسى وتنقيله ما بين الحمام وباب الحجرة المغلق حيث الشرخ الذى فى الزجاج. بل وربما كان جزءاً من متعتة فى الممارسة ينبع من إثارة ذكر آخر لا يملك إلا أن يحبس أنفاسه خوفاً من أن تنتبه الفريسة لما يحدث لها. فكان دائماً ما يخرج من الحجرة إلى الصالة لكى يجلس مع رمضان قليلاً، والذى كان لا يتوقف عن الحديث عن أصول ممارسة الجنس، ودلالات ردود فعل الأنثى لكل حركة من حركات الرجل، وعلامات الفحولة التى ينبغى أن يبديها الرجل معها حتى لا تتصل بغيره، لدرجة أن من يسمعه لابد أن يتصور أنه من أصحاب الخبرات الكبيرة فى هذه المسائل. وكثيراً ما كان خالد يخرج لكى يتأكد من وجود رمضان فى الحمام فيضحك مما يراه، وما يسمعه، ولا يقارن بينهما.
تكررت هذه الحكايات فى كل زيارة لها للشقة التى فى شارع الهرم. والتى تكررت كثيراً حتى أصبح بواب العمارة يعرفها، وعدد من الجيران الذين بدأت اعتراضاتهم تأخذ موقعاً بارزاً من وجود ثلاثتنا فى الشارع. فاضطر خالد أن يتقدم إلى أهلها لإعلان خطوبتهما، موضحاً لنا أن الأمر لن يكلفه كثيراً، فقط دبلتين رخيصتين،وقليل من الهدايا التى يأخذ ثمنها منها. غير أن ثورة رمضان ورفضه لهذه العلاقة التى لم تكن هى الأولى لخالد لم تتوقف، الذى توقف هو وضعه للكرسى قدام الباب، وحرصه على مشاهدة ما يدور بداخل الحجرة المغلقة، وهو ما ادهشنى فى البداية حتى عرفت السر وراء تمسك خالد بهذه البنت، ورفض رمضان لها. فقد كان هناك شىء ما فى علاقة فاطمة بممارسة الجنس يجعل جسدها لا يستجيب له إلا إذا بدأ من الالتصاق بردفيها، واكتمل تحت السرير. وهذا بالطبع جديد جداً على خالد الذى مر عليه كثير من البنات ممن كانت تقدمهن إليه تلميذة محترفة. إلا أنهن جميعاً لم تكن لهن دراية فاطمة، ولا وضعها المختلف، فلم تقدمها له هند، وإن كانت هى التى أشارت عليه بها، وخططت له مشواره مع زميله حسن إلى بيتها بعد ما فشلت فى جذبها إليها، إضافة إلى كونها غير عذراء، مما يعنى أن المسائل معها كاملة.
*        *        *
لا أدرى ماذا حدث بين فاطمة وخالد، وجعلها تختلق حكاية عن اغتصابها.. وتحكيها لأمها.
قالت أنه طلب منها أن يكون الدرس لها وحدها دون بقية المجموعة التى كانت تأخذ معها. ثم ذهب بها إلى شقته حيث قام بالاعتداء عليها. لم تكذب الأم خبرا ، ولم تمض ساعة حتى كانت قد عملت اتصالاتها، ورتبت له مصيبة لا يمكنه الخروج منها، اسمها فى دفتر الأحوال "الاعتداء على قاصر والتغرير بها" واسمها فى صحف المساء "مدرس يغتصب تلميذته"، واسمها فى الشارع "فضيحة بجلاجل".

المهم أننى فوجئت بى ذاهب إلى قسم "العمرانية" بصحبة رمضان للسؤال عن خالد الذى تغيب عن المنزل يومين كاملين، لم يذهب فيهما إلى المدرسة، وجاءت سيارة الشرطة أكثر من مرة للسؤال عنه أثناء غيابنا فى الخارج. وهناك قلت لهم أننى صديقه، وأشاركه فى السكن فى شقة مفروشة بشارع ترعة الزمر المتفرع من شارع الهرم، فاعتبرونى إما مشارك له، أو شاهد عليه، وعلى أن أختار أى الصيغتين (طبعاً كانوا هم قد اختاروا لى). اخترت الشهادة، لكننى عكس ما أردوا صرت شاهد نفى. وطبعاً هذه الشهادة لم تعجب الأخ "الصول" الذى كان يعرف الأخت أم فاطمة "عز المعرفة" فاتهمنى بالمشاركة، وعليه فقد استضافنى بالحجز خمس ساعات كاملة، بعدها أحس رمضان – الذى كان ينتظرنى أمام القسم – بغيابى فتوجس من الدخول، وذهب إلى الجريدة التى كان يعمل بها قبل تأسيس الحزب، ليستعين بزميل له يعرفه الجميع بأنه مندوب الداخلية فى الجريدة، طبعاً المفترض أن عمله عكس هذه الصيغة ، فهو مندوب الجريدة فى وزارة الداخلية. غير أن الأولى تغلب عليه (ومازالت). المهم. أتى رمضان ومعه الأخ المندوب الذى لا أذكر أسمه. فقط أذكر أنه جاهل كبير ، ولديه سيارة مملؤة بأقفاص الطازجة التى يوزعها على الباعة الجائلين ورؤساء التحرير والأقسام فى الجرائد والمجلات التى له علاقة بها. ليس مهماً على أية حال، فقد جاء إلى القسم لينتهى احتجازى على الفور، وأقفل الموضوع تماماً، حتى بدون أن يعلم به خالد الذى كان قد سافر إلى البلدة فجأة.
أغلق المحضر، حتى بعدما قام رجال القسم والطب الشرعى بالكشف على الأخت فاطمة – التى لم أرها لا هى ولا أى ممن يوجهون الاتهام – وتأكد لهم أنها ليست عذراء، فيبدو أن هذه المسألة لم تكن مهمة. كما أن علاقة الأخ الصول بالأخت أم فاطمة لم تكن على هذه الدرجة من الأهمية التى للأخ المندوب.
المهم أننى قضيت خمس ساعات كاملة لن أنساها ضيفا على قسم العمرانية الجديد، لا أعرف إن كنت سوف أظل كما أنا شاهداً، أم أننى قد تحولت بقدرة "صول" إلى متهم فى جريمة كهذه.
"عدت" و"أخذت الشر وراحت" ولا داع لتذكرها.
فقط لتكن هى..
فاطمة !

تعليقات

‏قال غير معرف…
رائعة يا عبد الوهاب للأسف لم أقرأ هذه الرواية وقت صدورها قبل سنوات.