رواية المهزوم.. الحلقة الأولى


في زَمنٍ مثل زمانِنا، أو قُل في زماننا هذا، عَاشت امرأةٌ، أو قُل تعيشُ امرأةٌ، فيها مزيجٌ من الطردِ والجاذبيةِ، والطزاجةِ والعَفَن، والضَعفِ والقوة، والوقاحةِ والحياء.
تُعطي من ثمارها لمن تريد، لأن جذورها تمتص ما تَطاله من بقايا الأجسادِ والأرواحِ.
تملكُ من حُسنِ الطَالع ما يفتحُ لها ما تَشاء من الأبوابِ، ومِن سوئها ما يقودُ خُطواتها إلى الوقوعِ في كل الفِخاخ.
لجسدها، عنفوانُ فلاحةٍ، ولصوتها، ما للرمالِ من نعومةٍ، وللحدائق من فاكهةٍ وعصافير.
عندما تراها فلا مفر من الوقوع في أسر رغباتها، لكنها عند الأفول.. لا تخلف غير الكراهية.
وأنا اليوم، عندما أحكي لكم عنها، لا تظنوا أنني بريءٌ ومُحايد، بل يمكنكم أن تقولوا إنني قطعة من مخلفات حروبها، تحاول استعادة ما فقدته من توازنها بالرغي والفضفضة، والنظر من بعيد.




لكنني أحب صافي

1.
اليوم.. السابع والعشرون من أكتوبر 1954..
لا مكانَ بالصفحاتِ الأولى لجميعِ الصحف المصرية، لغير الحديثِ عن محاولة اغتيال جمال عبد الناصر، في احتفالٍ بميدان المنشية بالإسكندرية.
أصابعُ الاتهام فيها جميعًا تُشيرُ إلى جماعةِ "الإخوان المسلمين" التي صدر قرار بحلها منتصف يناير من ذات العام، تتقدمها صحيفةُ "الأهرام" بأربعةِ أسطرٍ من العناوين كبيرة الحجم بعرض الصفحة الأولى، أكبرها حجمًا يَقولُ نَصًا: "محاولة أثيمة لاغتيال الرئيس عبد الناصر"، يليه شارحٌ أصغرُ قليلا في حجم الخطِ: "عامل من الإخوان يطلق عليه 8 رصاصات في ميدان المنشية"، فثالثٌ أقلُ: "الرئيس ينجو من الاعتداء ويقول: إنه يهب دمه وروحه في سبيل عزة الوطن وحريته"، ثم تنتهي العناوين بـ"القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان".
وبعنوان وصفي عريض صدَّرت "الجمهورية" صفحتها الأولى قائلة: "8 رصاصات طائشة".. لتستكملَ بخطٍ أقل حجما: "يطلقها إخواني على الرئيس في الإسكندرية ولا تصيبه"، يليه عنوان ثالث لتقرير الأولى: "جمال يستمر في خطابه ويقول للشعب: إذا مات جمال أو قتل فامضوا إلى الأمام فكلكم جمال عبد الناصر".
في تفاصيل الخبر الذي احتل نصف صفحة "الأهرام" أسفل العناوين: "أطلق عامل ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين ثماني رصاصات على الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية أمس، وكان الرئيس قد بدأ يخطب في الحفل الذي أقامته هيئة التحرير، لتكريمه وتكريم زملائه من قادة الثورة. ولم يبلغ الجاني مأربه إذ نجا الرئيس من الرصاصات الغادرة. وقد أصيب وزير المعارف بالسودان، والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدة جراح من شظايا ألواح الزجاج التي تناثرت من أثر إطلاق الرصاص. وعقب الرئيس عبد الناصر على الفور.. على محاولة اغتياله.. وكان تعقيبه هائلا رائعا فذا، وأقوى من الرصاص الذي أطلق عليه، إذ صاح وصوته يدوي كالرعد في الميدان الفسيح: "أيها المواطنون: دمي فداؤكم، وفداء مصر.. سأعيش من أجلكم، وسأموت من أجل حريتكم وكرامتكم. فليقتلوني.. لست أبالي، ما دمت قد غرست فيكم العزة والكرامة والحرية. وإذا مات عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر".
في النصف الأيسر من الصفحة أسفل العناوين، جاءت رسالة مراسل الجريدة بالاسكندرية تحت عنوانٍ تمهيدي يقول: "الرئيس جمال يخطب في الجماهير المهنئة بنجاته" "أراد الله العزة لمصر ولن يخذلها أبدًا"، وتحته بخط أصغر قليلًا "الحمد لله على نجاتي لأحقق لكم العزة والحرية والكرامة".
وفي التفاصيل: "الإسكندرية في 26 – لمندوب "الأهرام" الخاص" – اهتزت الإسكندرية هزة عنيفة على إثر تطاير أنباء المحاولة الأثيمة للاعتداء على بطل الجلاء، فاحتشدت الألوف في ميدان المنشية حتى بلغت ربع مليون نسمة وقفت ذاهلة شاخصة أبصارها إلى المكان في الشرفة التي يخطب منها الزعيم جمال عندما انطلقت الرصاصات الغادرة عليها. وقفت الجماهير مرتجفة القلوب تنتظر أن تطمئن على حياة البطل الذي باع روحه فدية لحرية مصر وعزتها وكرامتها."
وتحت عنوان فرعي يقول "كلمة الرئيس جمال"، كتب المندوب: "واستمر الهتاف والتصفيق نحو ثلث ساعة، وبعدها انطلق صوت البطل في نبرات مؤمنة رصينة قائلًا: "أيها المواطنون الحمد لله.. إن الله الذي أراد لمصر العزة يوم 23 يوليو لم يخذلها، ولن يخذلها أبدا، الحمد لله على نجاتي من أجلكم، لا من أجل نفسي، الحمد لله على نجاتي لأحقق لكم العزة والحرية والكرامة."
أتأملُ هذه التقاريرَ وأسألُ نفسي.. أهكذا كان يَكتبُ من عاشوا سنواتٍ طويلةٍ يملأون الهواءَ بالحديثِ عن الصحافة زمان، ويُصدعون أدمغتنا بالكلامِ عن أصول المهنة، وضَياعِها بسبب الأجيالِ الجديدة؟.
لم يكن عبد الناصر قد صار رئيسًا للجمهورية، وكان لقبُ "الرئيس" يُطلَقُ على رئيس مجلس الوزراء، أما ثورة يوليو فكانت في بدايات عامها الثالث فحسب.. ورغم هذا كتب من يريدون منا أن نتعلم منهم، أن تعقيب عبدالناصر على محاولة اغتياله كان "هائلًا رائعًا فذًا، وأقوى من الرصاص الذي أطلق عليه"، وأنه في تقرير اليمين "صاح وصوته يدوي كالرعد"، وفي تقرير اليسار "في نبراتٍ مؤمنةٍ رصينة".. دون توضيح طبعًا لسمات الصوت الذي يدوي كالرعد، أو النبرات المؤمنة، وما يميزها عن الصوت الكافر، أو الملحد، أو كيف يتماشى الصياحُ والدوي مع الرصانةِ والإيمان؟
أما عن ثلاثية "هائلا رائعا فذا"، فهي لا تحتاج إلى شرحٍ أو تفصيل.. هي ثلاثيةٌ تتحدث عن نفسها.. تلك آيةٌ وحدها.
هؤلاء الذين يعيبون على جيلنا أخطاءه اللغوية، يكتبون أن الجماهير وقفت "ذاهلة شاخصة أبصارها"، ثم "مرتجفة القلوب تنتظر أن تطمئن على حياة البطل الذي باع روحه فدية لحرية مصر وعزتها وكرامتها".. فأيهما أشدُّ بؤسًا.. خطأ في اللغةِ أم خطيئة في النفس؟
وأي مصيرٍ تتوقعُ لمهنةٍ هؤلاءِ هُم أساتذتها ومُعلِمُوها؟ وذاك ما خَطَّت أيديهم؟
ماذا يمكن أن نتوقع لمهنةٍ هؤلاءِ هم آباؤها الذين تتصدر كتاباتهم الصفحات الأولى للصحف الأكثر تأثيرًا في مصر وقتها؟
هؤلاء هم من تعلم كثيرٌ منا على أيديهم. وأنا بالطبعِ منهم، فلست غير واحدٍ من أبناء الطبقةِ المتوسطة، نال حظًا جيدًا من التعليم، وأراد أن يصبح صحفيًا في بلد يضعُ كارنيه النقابة رهنًا برضا مالك المؤسسة، وقُدامى المنافقين من هؤلاء الذين أحدثكم الآن عنهم. لذا.. لا تنتظروا مني، على الأقل، أن أكونَ موضوعيًا أو محايدًا في حكايتي، لأنني لن أكون كذلك، ولو حاولتُ إيهامكم بما ليس فيَّ. أنا نتاجُ هذه المدرسةِ في الكتابةِ، والمبالغات الوصفيةِ، وربما في أسلوب الحياةِ. ومن منا يمكن أن يدعي أنه يفهم حياته فهمًا كاملًا؟ كيف تَشَّكَلت؟ أو كيف سارت؟ وأين تكمنُ نقاط تحولاتها؟
من منا يعرفُ عُمقَ البصماتِ التي خلفتها الحياةُ في أعماقه؟. ولو كانت بصماتٌ لعناوين وكلمات سطرها زمرة من المنافقين والأفاقين فوق وريقاتٍ أدمن طفلٌ وحيد لطبيب مصري، وجميلة سويسرية، مطالعتها، والغرق معها، بمجرد عودة والده إلى المنزل، ليعيش وحيدًا بين سمومها لساعات طويلة، فماذا يمكن أن يتعلم؟!
من منا لا يعرفُ كيف يلتمسُ الأعذارَ لنفسه؟ أو لا يجدَ مُبرراتٍ لكل سلوكياته على مدار العمر؟ مهما كانت النتائج، والآثار التي تخلفُها من ورائها؟. وما هذا الذي أكتبه الآن؟
على أي الأحوال. أظن أنني توقفت طويلًا أمام هذه التقارير. على الرغم من أنها ليست سوى مدخلٍ لحكايتنا.
لنعد إذن إلى أصلِ الكلام.
صُحفُ الصباحِ تلك، لم تكن بالتأكيدِ على عِلمٍ بأنه في تلك الساعاتِ المرتبكةِ من مَساءٍ الإسكندرية، كانت في القاهرةِ شابةٌ بيضاءُ، ضَعيفةُ الجسدِ، على عتبات عامها الثامن والعشرين، تتوسلُ من يُساعدها في التخلصِ من آلامِ الوضع، بينما طفلةٌ لا يزيد عمرها على الثماني سنواتٍ تمسكُ بحلقِ البابِ بطرف الحجرة التي تنطلق من جوفها تأوهات الأم المكتومة. وكان رجلٌ أربعيني يسير بخطواتٍ مترنحةٍ خلف بائعةِ هوى بشارع عماد الدين.
هكذا بدأ الأمرُ..
ضجيجٌ، وزحامٌ، وهتافاتُ فرحٍ، وترحيبٍ بالزعيمِ هناك.
وصمتٌ، وخيانةٌ، وتأوهاتٌ مكتومةٌ، وامرأتان وحيدتان تمامًا إلا من آلامهما هنا.
كان عبد الناصر يَرفعُ يده لتحية الجماهير التي انتظمت باتساع السُرَادِقِ المنصوبِ بميدانِ المنشية الواسع، في عاصمة القطر المصري الشمالية، في الوقت الذي توقفت فيه سيارةُ الإسعافِ التي قطعت طريقها في صَمتٍ غير اعتيادي، أمام منزلٍ من سبعةِ أدوارٍ، حديث البناءِ، بشارع الترعة البولاقية بحي شبرا، في العاصمة الأولى التي سادها السكون، وهدأت الحركة في شوارعها، بينما تحلق سكانها حول أجهزة الراديو في المقاهي والمنازل، في انتظار كلمة الرئيس. بينما كان شكري يحكي للبارمان العجوز كيف انتظر سنوات طويلة أن تلتفت إليه "صافي"، زميلته في الفرقة.
كان شكري يقولُ عن فتنة "صافي" وهي ترقص وسط رفيقاتها خلف "الأسطى نرجس"، أشهر راقصات روض الفرج، فلا يرى غير وجهها الضاحك بغير افتعال.. "كانت ترقص وكأنها هي العروس، فراشةٌ تشق طريقها إلى السماء وكأنها عاشقة تتلهف للقاء حبيب.. لكن الحظَّ لا يعرف المحبين."
من الباب الخلفي للسيارة البيضاء، يهبط اثنان من المسعفين، تنتصب بينهما نقالة المرضي التي حملاها مسرعين إلى مدخل العمارة الواسع، تسبقهما فتاةٌ يقترب عمرها من الثانية عشرة، نحيفةٌ، بيضاءُ البشرةِ، بعينين زرقاوين، وأنفٍ صغيرٍ، ينتهي شعرها الأسود عند حدود منكبيها، وترتدي كنزةً صوفيةً ناصعة البياضِ، تتناثر زهورٌ ورديةٌ صغيرةٌ حول فتحةِ صدرها، وفوق المعصمين، والخصرِ، وحول الأزرار البيضاء الكبيرة التي أحكمت إغلاقها، فوق جوب بنيةِ اللون، تزينها مربعات سميكة متجاورة من الخطوط البيضاء والسوداء، لا تتجاوز ركبتيها اللاتي تختفيان تحت شراب صوفي أسود اللون. نزلت من المقعدِ المجاورِ للسائقِ، تملأ وجهها علاماتُ القلقِ والتوترِ. أخبرتهما أن الشقة بالطابق الثاني، فلم يلتفتا إلى المصعد، وأسرعا يقطعان السلم الرخامي العريض باتجاه غرفةِ التأوهات.
في الناحيةِ المقابلةِ من الشارع، لم يكن أحدٌ ليلتفتَ إلى ما يجرى هنا. تجمعَ روادُ المقهى بالقرب من الطاولةِ التي ينتصب فوقها جهاز الراديو، فيما عبد الناصر بجاهد لوقف الهتافِ بحياته: "كفانا هتافًا أيها المواطنون، فقد هتفنا في الماضي طويلًا، فهل سنعود إلى التهريج؟ إني لا أريد أن أسمع هتافًا باسمي، وإذا كنا نتكلم معكم اليوم، فإنما نتكلم لنسير إلى الأمام، بجد وعزم لا بالتهريج."
وكانت شابة عشرينيةٌ تسحبُ كرسيًا لتجلس بجوارِ العازفِ السكران. تسأله لماذا يشربُ وحيدًا، وتسأله أن يطلب لها مشروبًا، فينقلُ عينيه الثقيلتين إلى صدرها، ثم إلى الشفتين المكتنزتين، ويسألها: أتحبين الغناء؟
تضحكُ، وتهمسُ بالقربِ من أذنه: وأجيد الرقصَ وأشياءً أخرى.. أتريدُ أن ترى؟
يخفض رأسه وعينيه ويتمتمُ: لكنني أحبُ صافي.
بمجرد سماعها صوت السيارة تتوقفُ أمامَ باب المنزلِ، أسرعت فريدة تفتحُ البابَ ليدخلَ منه المسعفان ونقالتهما، ولتعلو وجه الأم علاماتُ ارتياحٍ مؤقتٍ، أو قُل هو اطمئنانٌ إلى سلامةِ تَصَرفِ طفلتيها في هذا الموقف الصعب. أمسكت بيدِ بكريتها سارة التي كانت قد سبقت المسعفين بخطوات، بينما كانت فريدة تُحكمُ غلق الشبابيك والأبواب، قبل أن تلحق بيد أمها الثانية، لينطلق الركبُ بسرعةٍ أبطأُ كثيرًا هذه المرة، باتجاه السيارةِ التي كانت تقف صامتةً وسط السكون إلا من صوت المذياعِ القادم من كل الاتجاهات.
داخل السيارةِ التي انطلقت في شَوارعِ القاهرة الخالية تمامًا من المارةِ، تحول انتباهُ السائق والمسعفان كله باتجاه صوت عبد الناصر يقول للجماهير الصاخبة: "وإذا كنت أتكلم معكم اليوم في الاحتفال بهذه الاتفاقية، فإنما أردت أن أذكركم بالماضي، أذكركم بكفاح آبائكم وأجدادكم، وأقول لكم إني بدأت كفاحي وأنا شاب صغير في سنة 30، خرجت مع أبناء الإسكندرية أنادي بالحرية والكفاح لأول مرة في حياتي من هذا الميدان". بينما جلست الطفلتانِ حول أمهما..
سألت صافي بكريتها عن شكري، فقالت إنها تركت له ورقة فوق طاولة الطعام. وكانت الفتاةُ العشرينيةُ تسحبُ العازفَ الغارق في خمره إلى الشارع المظلمِ، الخالي من المارةِ..

وقفت الطفلتان خارج غرفة العمليات بالمستشفي، تتناقلهما مشاعرُ الترقبِ والقلقِ على الأم ضعيفة الجسدِ، وفرحةُ احتمال فوزهما بأخٍ ذكرٍ، يكون عونًا لهما في مواجهة الصبيةِ في الحي الشعبي الذي كرهن الحياة به منذ انتقال أمهما إليه بصحبة زوجها الجديد، وزميلها العازف في فرقة الاسطى نرجس.. وبينما كانت صرخاتُ المولودة تنطلقُ من بين قدمي الأم، معلنةً بَدءَ مَسيرةٍ جديدةٍ في فضاءِ الحياةِ على أرض مصر، كانت طلقات الرصاص تنطلق في المنشيةِ، لتعلن أيضًا عن بدء مسيرةٍ جديدةٍ في قمةِ السلطة وبنائها على ذات الأرض.. فيما يدٌ خشنةٌ تنطلق من الظلامِ لتكمم فم العازف السكران، وتسحبه إلى أرضٍ مهجورةٍ، لا يدري كيف وصل إليها، وسكينٌ رخيص ينغرس في صدره، قبل أن تمد العشرينية يَدَيها تُقّلبُ جيوبه، لتستخرج كل ما فيها، ثم تلوذُ هي وصاحب اليد الخشنة بالفرار.
تسيطر على المستشفى الذي كان يسوده الهدوء منذ لحظاتٍ، حالةٌ من الفزعِ والقلق. صيحاتُ غضبٍ، وألمٍ، واستفهامٍ، تنطلقُ من هنا وهناك. الممرضات اللائي كن مشغولاتٍ بالمولودة الجديدة، قطعن حبلها السُري على عجلٍ لينطلقن بالأم إلى أقربِ غرفةٍ، ولتتعلق آذانهن وعيونهن بأجهزة الراديو في انتظار أي كلماتٍ عن الوضع في الميدان، بينما عبدالناصر يهتف مدشنًا أسطورته: "فليقف كلٌ في مكانه" و"إن مات جمال عبدالناصر، فكلكم جمال عبدالناصر".. ولتجد البنتان نفسيهما في حيرةٍ لا مخرجَ منها، فلا أحدَ يستمعُ إليهن، لا أحدَ يُريدُ أن تدخلَ أذنيه كلماتٍ غير تلك التي يبثها ذلك الجهاز الغبي.. دقائقُ مَريرةٌ مَرت كأنها الدهرُ قبل أن يأتي صوتُ المذيع معلنًا "سلامة الرئيس من العدوان الآثم"، وإصراره على الحديثِ إلى جماهير الشعب، ليعود الاهتمامُ مرة أخرى إلى المولودةِ التي لم يتوقف بكاؤها رغم محاولات أختيها، والوالدةِ التي كانت قد راحت في سباتٍ عميق، لم تُفق منه إلا على صوت ضحكاتِ طفلتيين تداعبان ثالثتهما، وتعلنان اتفاقهن على تسميتها ناهد، بينما عصفور يقفُ على حافة النافذة، ولا يتوقف عن إرسال تحيته الخاصة إلى غرفة الجميلات، معلنًا عن بدايةِ صباحٍ جديد.
سألت صافي طفلتيها عن زوجها الثالث الذي لم يحضر ميلاد طفلته، فأخبرنها بما جرى في المنشية، وسلامة الرئيس. ثم وضعن الصغيرةَ النائمةَ فوق حِجرها، لتضمها إلى صدرها الصغير، وتطبعُ قُبلةً فوقَ جبينها، وهي تُتمتمُ "ناهد.. لتكن الثالثةُ.. والأخيرة".
هكذا.. دخلت ناهد منزل شارع الترعة لأول مرة في حياتها، تسبقها قواتُ الأمنِ التي جاءت مع صلاة الفجر بحثًا عن عناصرَ تابعةٍ لجماعةِ الإخوان، تليها بساعات قليلة قواتٌ أخرى تبحثُ عن شخصٍ يمكنه التعرفَ على جثمان العازف الذي وجدوه مقتولًا في قطعةِ أرضٍ مهجورة.. وتقول الأوراق التي تناثرت حوله أن اسمه شكري.
تعرفت صافي على الأوراق التي وجدوها معه، بينما انطلقت معهم سارة التي لم تكن قد أكملت عامها الثاني عشر للتعرفِ على جثمانه.. لتكسو المنزل حديثَ البناءِ غيمةٌ من الأحزانِ، والصمتِ الكثيف، تنطلقُ من طابقه الخامس الذي كان يسكنه قيادي بالجماعة التي يصنفها مجلس قيادة الثورة كجماعة إرهابية، لتَستقرَّ في طابقه الثاني، حيث تنام شابة شاحبة الوجه، مقبوضة الصدر بعد معرفتها بمقتل زوجها الثالث في نفس اللحظة التي شهدت ميلاد طفلته الأولى.

تعليقات