معارك صغيرة: الحجاب.. يصلي صلاة مودع

لا أحب الحجاب، ولا المحجبات.. هذا رأيي الشخصي، ولي كامل الحرية فيه، ولكم بالطبع كامل الحرية في رفضه، أو قبوله.. لكنني أظن أنه من حقي أن أوضح أسبابي، وحججي التي تخص جيلا بكامله، ويمتد تأثيرها إلى أجيال تالية، كان من حسن الطالع أنها لم تستمر طويلا، وفعل المصريون فعلهم الأبدي في التعامل مع ذلك الغطاء العجيب الذي وضعته نساء خائفات، طامعات في ضمانة مجانية لدخول المستقبل المجهول، فحولوه خلال سنوات معدودة من رمز سياسي وديني، كعلامة على التزام زائف، إلى مجرد عادة اجتماعية بلا دلالات، ولا معان.
تقول الأوراق والتواريخ، إن جيلي، الذي فتح عينيه على الحياة مع بداية حقبة السبعينيات، هو أول الأجيال التي ضربها القبح القادم من الصحراوات المجاورة في مقتل، ساعدته في ذلك سلطة تبحث عن اتزان غير طبيعي، ولا مدروس، ولا أساس له.. كان السادات يبحث عمن يستطيع مواجهة قوى اليسار في الجامعة، فمنح لنفسه لقب "الرئيس المؤمن"، متزامنا مع فتحه الطريق لجماعات الإسلام السياسي، ليضمن بذلك مسحة دينية لنظامه، ويفتح له، في نفس الوقت ،الطريق إلى مصالحة مع دول الخليج التي كانت قد بدأت تعلن عن تململها من سلطة الأم المصرية، ورغبتها في الخروج عليها.
تزامن ذلك مع ظهور طبقة اجتماعية عجيبة السمات والتكوين، تكونت من أثرياء الفهلوة، وخفة اليدين، ونجوم اللعب بالثلاث ورقات.. هذه الطبقة القادمة من قهر الفقر، ومذلة الجوع، والتي كونت ثرواتها من التحايل على القانون، واستغلال جيرانها، وأبناء جلدتها، واستحلت كل الطرق الممكنة للوصول إلى سلم الثراء.. ولو بمخالفة الشرع والدين، واستغلالهما إن استطاعت إلى ذلك سبيلا، وهو ما حدث بالفعل، واستطاعت إليه سبلا عديدة، فقد كان لا بد لهذه الطبقة من أن تبحث هي أيضا عن غطاء من شرعية دينية، زائفة بالطبع، ولا جذور لها.. وهنا جاءها الحل السحري، من ذلك الغطاء الذي بدأ ينتشر فوق رؤوس نساء تلك الطبقة، كعلامة على تدين، لا أصل له.
وتقول الأوراق والتواريخ أيضا إنه في تلك الفترة كانت أولى ضربات قطار الفقر تتوجه بقوة وعنف لأجيال الشباب، وغالبيتهم من خريجي الجامعات، فتأخر سن الزواج، وتوالت ضربات سهام العنوسة في قلوب الفتيات، لتبدأ رحلة البحث عن تميز لا علاقة له بالجمال، ولا بالأصل والفصل، ولا أي من تلك المقومات التي كانت دليل الشباب إلى الزوجة والأسرة، فبدأت خصلات الشعر تتوارى خجلا، وكأنها باب الفتنة الذي لا يقدر شاب على الصمود أمامه، ولا تستطيع الفتيات مقاومة الغواية عند ملامسته لعيون الطامعين.
بدأ الحجاب كعلامة على التزام ديني، وتحول إلى غطاء مميز للفتيات المنتسبات إلى تيارات الإسلام السياسي التي بدأت تمد جذورها تحت الأرض، وهي الشريحة التي كانت وقتها واحدة من الفئات المحدودة، والضئيلة العدد، التي يمكنها الزواج، بما تحصل عليه من تمويلات لا يعرف مصادرها، ومساراتها، إلا الله، وأجهزة الاستخبارات.
ومع مرور السنوات، وتوالى ضربات الفقر والعنوسة، وغيرها من أمور لا يتسع المجال لذكرها، لاعتبارات المساحة ليس إلا، انتشر الحجاب، واتسعت رقعة تغطيته لأجساد النساء، وتوالت الخناقات بين مؤيدين، ومعارضين، ومحبين، وكارهين.. لكن مصر التي جعلت الإسكندر الأكبر فرعونا، وصبغت جميع الأديان بألوانها، وجدت في الحجاب سبلا أخرى، كباب سهل ومضمون لاصطياد العريس الباحث عن "ذات الدين"، ولتقليل نفقات العناية بالشعر، وتكاليف الزينة التي عاودت سيرتها سريعا، بفعل تحول جميع الفئات إلى ذلك الغطاء العجيب، في ما يشبه الفيضان الاجتماعي.. وليتحول في أقل من خمسين عاما، إلى مجرد عادة اجتماعية، فارغة من المضمون، وبلا دلالات.. فأصبح أمر طبيعي جدا أن ترى محجبة تجلس فى أحد الكافيهات تدخن الشيشة مع صديقاتها، وربما تجدها فى البار أيضا، وفي يدها زجاجة من البيرة، أو كأس من النبيذ.
ربما كان ذلك مما سهل عملية التخلص من ذلك الغطاء، مع الأيام الأولى من تولى تنظيم "الإخوان" حكم مصر، وسريان موجات السلفيين بوجوهها القبيحة، وشعيراتها الدميمة فوق وجوه الرجال، والشباب.. ما وضع كلمة النهاية لاستشرائه في عموم البلاد.. ولتعود خصلات الشعر الجميلة لتطل من تحت الغطاء الذي بدأت تتنشر فيه الألوان، ولتظهر نوعية أخرى من اللحى المشذبة، التى يوليها الشباب عناية لا تقل عن عناية من يحلقونها، لتبدو كباب آخر للوسامة، والأناقة، لا كعلامة دينية.. وليذهب الباحثون عن تمييز ديني، إلى أبواب أخرى، أشد قبحا، وإذلالا للنساء..

ليكن.. فللشعيرات الدميمة تحت الذقون وحول الوجوه، ما يناسبها من "إسدالات"، أو عيون خائفة خلف "النقاب".. ولنا الجمال الذي نحب، والحياة التي تصبغ كل شيء بألوانها، ولو كان الإسكندر الأكبر.

تعليقات